فصل: سورة الأحقاف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لطائف الإشارات ***


سورة الدخان

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

الحاء تشير إلى حقِّه؛ والميم تشير إلى محبته‏.‏ ومعناه‏:‏ بحقي وبمحبتي لِعِبادي، وبكتابي العزيز إليهم‏:‏ إنِّي لا أُعِذِّبُ أهل معرفتي بفرقتي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 4‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ‏(‏3‏)‏ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏فِى لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ‏}‏‏:‏ قيل هي ليلة القَدْر، وقيل هي النصف من شعبان وهي ليلة الصَّك‏.‏ أنْزَلَ القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا كلَّ سَنَةٍ بمقدار ما كان جبريلُ ينزل به على الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

وسمَّاها‏:‏ ‏{‏لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ‏}‏ لأنها ليلة افتتاح الوصلة‏.‏ وأشدُّ الليالي بركةً ليلةٌ يكون العبدُ فيها حاضراً، بقلبه، مشاهداً لربَّه، يتَنَعَّمُ فيها بأنوار الوصلة، ويجد فيها نسيم القربة‏.‏

وأحوال هذه الطائفة في لياليهم مختلفة، كما قالوا‏:‏

لا أظْلِمُ الليلَ ولا أدَّعي *** أنَّ نجومَ الليل ليست تزولُ

لَيْلِي كما شاءت‏:‏ قصيرٌ إذا *** جادَتْ، وإن ضنَّتْ فَلَيْلِي طويلُ

‏{‏فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكٍيمٍ‏}‏ يكتب من أمِّ الكتاب في هذه الليلة ما يحل في السنة كلّها من أقسام الحوادث في الخير والشرِّ، في المحن والمِنَنِ، في النصر والهزيمة، في الخصب والقحط‏.‏

ولهؤلاء القوم ‏(‏يعني الصوفية‏)‏ أحوالٌ من الخصب والجدب، والوصل والفصل، والوفاق والخلاف، والتوفيق والخذلان، والقبض والبسط‏.‏ فكم مِنْ عبدٍ ينزل له الحكم والقضاء بالبُعْدِ والشقاء، وآخر ينزل حكمه بالرِّفد والوفاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ‏(‏5‏)‏ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ‏}‏‏:‏ وهي الرسولُ- صلى الله عليه وسلم، قال صلوات الله عليه‏:‏ «أنا رحمة مهداة»‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ‏}‏ رحمةً لنفوسُ أوليائنا بالتوفيق، ولقلوبهم بالتحقيق‏.‏

‏{‏إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏‏:‏ «السميع» لأنين المشتاقين، «العليم» بحنين المحبين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

مالك السموات والأرضين، ومالك ما بينهما- وتداخل في ذلك اكسابُ العباد‏.‏

وتَمْلُّكُها بمعنى القدرة عليها، وإذا حَصَلَ مقدورٌ في الوجود دَلَّ على أنه مفعولُه؛ لأن معنى الفعل مقدورٌ وجِدَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 12‏]‏

‏{‏لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏8‏)‏ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ‏(‏9‏)‏ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ‏(‏10‏)‏ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏11‏)‏ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لآَ إِلَه إِلاَّ هُوَ يُحىِ وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ ورَبُّ ءَابَآئِكُمُ الأَوَّلِينَ‏}‏‏.‏

هذه الكلمة فيها نَفْيُ ما أثبتوه بجهلهم، وإثباتُ ما نَفَوْه بجحدهم‏.‏

‏{‏رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ الأَوَّلِِينَ‏}‏‏:‏ مُرَبِّي أصْلَكُم ونَسْلَكُمْ‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ يَلْعَبُونَ‏}‏‏.‏

اللَّعِبُ فِعْلٌ يجري على غير ترتيبٍ تشبيهاً باللُّعاب الذي يسيل لا على نظام مخصوص؛ فَوَصَفَ المنافقَ باللَّعبِ؛ وذلك لتردُّدِه وتحيُّرِه نتيجةَ شكِّه في عقيدته‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينَ‏}‏‏.‏

هذا من اشراط الساعة؛ إذ يتقدم عليها‏.‏

وقيامة هؤلاء ‏(‏يقصد الصوفية‏)‏ معجَّلة ‏(‏أي تتم هنا في هذه الدنيا‏)‏ فيومُهم الذي تأتي السماء فيه بدخان مبين هو يومُ غيبةِ الأحباب، وانسداد ما كان مفتوحاً من الأبواب، أبوابِ الأُنسِ بالأحباب في معناه قالوا‏:‏

فما جانبُ الدنيا بسَهْلٍ ولا الضُّحى *** بطَلْقٍ ولا ماءُ الحياةٍ بباردِ

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏.‏

وعذابُ هؤلاء ‏(‏يقصد الصوفية‏)‏ مقيمٌ في الغالب، وهو عذابٌ مُسْتَعذْبٌ، أولئك يقولون‏:‏

‏{‏رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

وهؤلاء يستزيدون- على العكس من الخَلْق- العذاب، وفي ذلك يقول قائلهم‏:‏

فكلُّ مآربي قد نِلْتُ منها *** سوى ملذوذِ وجدي بالعذاب

فهم يٍسألون البلاََءَ والخَلْقُ يستكشفونه، ويقولون‏:‏

أنت البلاءُ فكيف أرجو كَشْفَه *** إنَّ البلاَءَ إذا فَقَدْتُ بلائي

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ‏(‏13‏)‏‏}‏

إن خالفوا دواعي قلوبهم من الخواطر التي تَرِدُ من الحقِّ عليهم عوقبوا- في الوقت بما لا يتَّسعُ لهم ويُسْعِفهم، فإذا أخذوا في الاستغاثة يقال لهم‏:‏ أنَّى لكم الذكرى وقد جاءكم الرسول على قلوبكم فخالفتم‏؟‏‏!‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 18‏]‏

‏{‏إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ‏(‏15‏)‏ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ ‏(‏16‏)‏ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ‏(‏17‏)‏ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّا كَاشِفُوا العَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ‏}‏‏.‏

حيث نورثكم حزناً طويلاً، ولاتجدون في ظلال انتقامنا مقيلاً‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَنْ أَدُّواْ إلَىَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّى لَكَمْ رَسُولٌ أَمِينٌ‏}‏‏.‏

فتَنَهم بعد ما أصَرُّوا على جحودهم ولم يرجعوا إلى طريق الرشد من نفرة عنودهم‏.‏

‏{‏وَجَآءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ‏}‏‏:‏ يطالبهم بإزالة الظلم عن بني إسرائيل، وأن يستبصروا، واستنفرهم لله، وأظهر الحُجَّةَ من قِبَلِ الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 29‏]‏

‏{‏فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ‏(‏23‏)‏ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ‏(‏24‏)‏ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏25‏)‏ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ‏(‏26‏)‏ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ‏(‏27‏)‏ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ ‏(‏28‏)‏ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَبَعُونَ‏}‏‏.‏

أمَرَه بأن يَسْرِيَ بعباده المؤمنين، وعرَّفهم أنهم سيُنْقَذون، وأنَّ عدوَّهم ‏{‏جُندٌ مُّغْرَقُونَ‏}‏‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ‏}‏‏.‏

ما خلفوه من أحوالهم ومن رياشهم، وما تركوه من أسباب معاشهم استلبناه عنهم‏.‏

‏{‏كَذِلَكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً ءَاخَرِينَ‏}‏‏.‏

وأسْكَنَّا قوماً آخرين في منازلهم ودورهم‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏فَمَا بَكَتْ عَليْهِمُ السَّمَآءُ والأرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ‏}‏‏.‏

لم يكن لهم من القَدْرِ والخَطَرِ ما يتحرك في العالَم بِسببَهم ساكنٌ، أو يسكن متحركٌ فلا الخضراء بسببهم اغبرَّتْ، ولا الغبراءُ لغيبتهم اخضَّرتْ‏.‏ لم يبقَ منهم عينٌ ولا أثر، ولم يظهر مِنْ قِبَلِهم على قلبِ أحدٍ من عبادِنا أثرٌ‏.‏ وكيف تبكي السماءُ لفقْدِ من لم تستبشر به من قَبْلُ‏؟‏ بعكس المؤمن الذي تُسَرُّ السماءُ بصعود ِعمله إليها، فإنها تبكي عند غيابه وفَقْدِه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 42‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ ‏(‏30‏)‏ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏31‏)‏ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏32‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ ‏(‏33‏)‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ ‏(‏34‏)‏ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ ‏(‏35‏)‏ فَأْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏36‏)‏ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏37‏)‏ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ‏(‏38‏)‏ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏40‏)‏ يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏41‏)‏ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏42‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ مِنَ العَذَابِ المُهِينِ مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المُسْرِفِينَ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى العَالَمِينَ‏}‏‏.‏

نجَّاهم، وأقمى عدوَّهم، وأهلكه‏.‏

‏{‏وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ‏}‏ أي عَلِمنا ما يحتقبون من أوزارهم، فرفعنا- باختيارنا- من أقدارِهم ما وَضعَه فِعْلُهم وتدنسُّهم بأوضارهم‏.‏

ويقال‏:‏ «على علمٍ منا» بأحوالهم أنهم يُؤثِرون أمرنا على كل شيء‏.‏

ويقال‏:‏ «على علمٍ منا» بمحبة قلوبهم لنا مع كثرة ذنوبهم فينا‏.‏

ويقال‏:‏ «على علم منا» بما نودع عندهم من اسرارنا، وما نكاشفهم به من حقائق حقِّنا‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَءَاتَيْنَاهُم مِّنَ الأَيَاتِ مَا فِيهِ بَلآءٌ مُّبِينَ‏}‏‏.‏

من مطالبته بالشكر عند الرخاء، والصبر عند الكَدَرِ والعناء‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏إِِنَّ هَؤُلآَءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِىَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا تَحنُ بِمُنشَرِينَ فَأْتُواْ بِئَابَآئِنآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏‏.‏

اقترح أبو جهلٍ على النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يحييَ لهم نَفْساً‏:‏

«لتخبرنا‏:‏ هل أنت صادق أم لا‏؟‏» فأخبر الله- سبحانه- أنهم اقترحوا هذا بعد قيامِ الحُجَّةِ عليهم، وإظهار ما أزاح لهم من العُذْر‏:‏

ثم قال جل ذكره‏:‏ ‏{‏أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمٌ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمينَ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

«تُبّع» هو ملك لليمن، وكان مسلماً، وكان في قومه كثرة، وأهلك الله سبحانه قومَه على كثرة عددهم، وكمال قُوَّتِهم‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ‏}‏‏.‏

ما خلقناهما إلا بالحقِّ، بالحُكْمِ الحقِّ، وبالأمرِ الحقِّ *** «فأنا مُحِقُّ في خَلْقِهما»‏:‏ أي كان لي خَلْقُهما‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ يَوْمَ الفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلىً عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ إلاَّ مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‏}‏‏.‏

يومئذٍ لا يُغْني ناصرٌعن ناصر ولا حميمٌ عن حميم، ولا نسيبٌ عن نسيبٍ *** شيئاً‏.‏ ولا ينالهم نصرٌ إلا من رَحِمَه الله؛ وبفَضْلِه ونِعْمته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 52‏]‏

‏{‏إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ‏(‏43‏)‏ طَعَامُ الْأَثِيمِ ‏(‏44‏)‏ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ‏(‏45‏)‏ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ‏(‏46‏)‏ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ‏(‏47‏)‏ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ‏(‏48‏)‏ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ‏(‏49‏)‏ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ‏(‏50‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ‏(‏51‏)‏ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏52‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُومِ طَعَامُ الأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِى البُطُونِ كَغَلْىِ الحَمِيمِ‏}‏‏.‏

«الأثيم» مرتكبُ الذنوب‏.‏ «المهل» المذاب‏.‏ «الحميم»‏:‏ الماء الحار‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ‏}‏‏.‏

ادفعوا به إلى وسط الحميم‏.‏ ويقال له‏:‏

‏{‏ذُقْ إِِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ‏}‏‏.‏

أنت كذلك عند قومك، ولكنك عندنا ذليلٌ مَهينٌ‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ‏}‏‏.‏

آمنين من المحن من جميع الوجوه، لِباسُهم من حرير، وفراشُهم من سُندسٍ واستبرق، «متقابلين»‏:‏ لا يبرحون ولا يبغون عنها حِوَلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ‏(‏54‏)‏‏}‏

تُباح لهم صُحْبَتُهن، ولا يكون في الجنة عقد تزويج ولا طلاقٌ، ويمكَّن الوليُّ بهذه الاوصاف من هذه الألطاف‏.‏ ثم قد يُخْتطفُ قومُ من بين هذه الأسباب، فيتحررون عن هذه الجملة؛ فكما انهم في الدنيا مُختَطَفُون عن كلِّ العلائق فإنهم في الآخرة تطمع الحورُ العينُ في صحبتهم فيستلبهم الحقُّ عن كلِّ شيء‏.‏

الزاهدُ في الدنيا يحميه منها، والعارفُ في الجنة يحميه من الجنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏56‏)‏‏}‏

الموتة الأولى هي بقبض أرواحهم في الدنيا، ويقيهم الله في الآخرة العذاب بفضله، وذلك هو الظَّفَرُ بالبغية، ونجاح السُّؤل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ‏}‏‏.‏

يا محمد، ليذكر به أهلُك، فارتقِبْ العواقب تَرَ العجائب‏.‏ إنهم يرتقبون، ولكن لا يرون إلا ما يكرهون‏.‏

سورة الجاثية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏3‏)‏ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏حم تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ الْحَكِيمِ‏}‏‏.‏

‏{‏الْعِزِيزِ‏}‏‏:‏ في جلاله، ‏{‏الْحَكِيمِ‏}‏‏:‏ في أفعاله‏.‏

‏{‏العْزِيزِ‏}‏‏:‏ في آزاله، ‏{‏الْحِكِيمِ‏}‏‏:‏ في لطفه بالعبد بوصف إقباله‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لأَيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

شواهد الربوبية لائحةٌ، وأدلةُ الإلهية واضحةٌ؛ فمَنْ صحا مِنْ سَكْرَةِ الغفلة، ووضعَ سِرَّه في محالِّ العِبرة حَظِيَ- لا محالةَ- بحقائق الوصلة‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ‏}‏‏.‏

إذا أنعم العبدُ نَظَرَه في استواء قدِّه وقامته، واستكمال عقله وتمام تمييزه، وما هو مخصوص به في جوارحه وحوائجه، ثم فكَّرَ فيما عداه من الدواب؛ في أجزائها وأعضائها‏.‏‏.‏ ثم وقف على اختصاص وامتياز بني آدم من بين البريَّة من الحيوانات في الفهم والعقل والتمييز والعلم، ثم في الإيمان والعرفان ووجوهِ خصائص أهل الصفوة من هذه الطائفة في فنون الإحسان- عَرَفَ تخصُّصَهم بمناقبهم، وانفرادَهم بفضائلهم، فاستيقن أن الله كَرَّمهم، وعلى كثيرٍ من الخلوقات قدَّمَهُم‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَاخْتَلاَفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَآ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ءَايَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏

جَعَلَ اللَّهُ العلومَ الدينية كسبيةً مُصَحَّحةً بالدلائل، مُحَقِّقةً بالشواهد‏.‏ فَمَنْ لم يَسْتَبْصِرْ بها زّلَّتْ قَدَمُه عن الطراط المستقيم، ووقع في عذاب الجحيم؛ فاليومَ في ظلمة الحيرة والتقليد، وفي الآخرة في التخليد في الوعيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 10‏]‏

‏{‏تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ‏(‏7‏)‏ يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏8‏)‏ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏9‏)‏ مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏تِلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالحَقِّ فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَءَايَاتِهِ يُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

فَمَنْ لا يؤمن بها فبأي حديثٍ يؤمن‏؟‏ ومن أي أصل يستمد بعده‏؟‏ ومن أي بَحْرٍ في التحقيق يغترف‏؟‏ هيهات‏!‏ ما بقي للإشكال في هذا مجال‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ ءَايَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكَبِراً كّأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏‏.‏

كلُّ صامتٍ ناطقٌ، يصمت عن الكلام والقول وينطق بالبرهان في الحكم‏.‏

فَمَنْ استمع بسمع الفهم، واستبصر بنور التوحيد فاز بذُخْرِ الدارين، وتصدَّى لِعِزِّ المنزلين‏.‏ ومَنْ تصامم بحكم الغفلة وقع في وهدة الجهل، ووُسِم بكيِّ الهَجْر‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَئِِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏‏.‏

قابله بالعناد، وتأوَّله عَلَى ما يقع له من وجه المراد مِنْ دون تصحيح بإسناد *** فهؤلاء ‏{‏لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏‏:‏ مُذِلٌّ‏.‏

وقد يُكاشَفُ العبدُ من بواطن القلب بتعريفاتٍ لا يتداخله فيها ريبٌ، ولا يتخالجه منهاشكٌّ فيما هو به من حاله *** فإذا استهان بها وقع في ذُلِّ الحجبة وهونٍ الفرقة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِى عَنْهُمْ مَّا كَسَبُواْ شَيْئًا وَلاَ مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏‏.‏

فعند هذه الفترة، وفي وقت هذه المحنة فلا عُذْرَ يُقْبَلُ منهم، ولا خطابَ يُسْمَعُ عنهم، ولهم عذابٌ متصل، ولا يُرَدُّونَ إلى ما كانوا عليه من الكشف‏:‏

فَخَلِّ سبيلَ العينِ بعدك للبكا *** فليس لأيام الصفاءِ رجوعُ

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

عندما يركبون البحرَ فلربما تَسْلَمُ السفينةُ ولربما تغرق‏.‏

وكذلك العبد في فلك الاعتصام في بحار التقدير، تمشي به رياح العناية، وأَشْرِعَةُ التوكل مرفوعةٌ، والسُّبُلُ في بحر اليقين واضحة‏.‏ وطالما تهب رياحُ السلامة فالسفينةُ ناجيةٌ‏.‏ أمَّا إنْ هبَّت نكباتُ الفتنةِ فعندئذٍ لا يبْقى بيد الملاَّحِ شيءٌ، والمقاديرُ غالبةٌ، وسرعان ما تبلغ قلوبُ أهلِ السفينةِ الحناجرَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 18‏]‏

‏{‏وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏13‏)‏ قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏14‏)‏ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ‏(‏15‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏16‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏17‏)‏ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏جَمِيعاً مِّنْهُ‏}‏‏:‏ كلُّ ماخَلَقَ من وجوه الانتفاع بها- كلُّه منه سبحانه؛ فما من شيءٍ من الأعيان الظاهرة إلاّ- ومن وجهٍ- للأنسان به انتفاع *** وكلها منه سبحانه؛ فالسماءُ لهم بناء، ولأرضُ لهم مهاد *** إلى غير ذلك‏.‏ ومِنَ الغَبْنِ أن يستسخرَك ما هو مُسَخَّرٌ لك‏!‏ وَلْيتأملْ العبدُ كلَّ شيءٍ‏.‏‏.‏ كيف إنْ كان خَلَلٌ في شيءٍ منها ماذا يمكن أن يكون‏؟‏‏!‏ فلولا الشمسُ‏.‏‏.‏ كيف كان يمكن أن يتصرَّف في النهار‏؟‏ ولم لم يكن الليلُ كيف كان يسكن بالليل‏.‏‏؟‏ولو لم يكن القمر‏.‏‏.‏ كيف كان يهتدي إلا الحساب والآجال‏؟‏ *** إلى غير ذلك من جميع المخلوقات‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قُل لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِىَ قَوْمَا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏‏.‏

نَدَبَهم إلى حُسْنِ الخُلق، وجميلِ العِشْرَة، والتجاوزِ عن الجهل، والتنقي من كدورات البشرية‏.‏ ومقتضياتِ الشُّحِّ‏.‏

وَبيَّنَ أَنَّ اللَّهِ- سبحانه- لا يفوته أحدٌ‏.‏ فَمَنْ أراد أَنْ يعرِفَ كيف يحفظ أولياءَه، وكيف يُدَمِّر أعداءَه‏.‏ فَلْيَصبِرْ أياماً قلائلَ لَيَعْلَمَ كيف صارت عواقبُهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ‏}‏‏.‏

مَنْ عَمِلَ صَالحاً فله مَهْناه، ومن ارتكب سيئةً قاسى بلواه *** ثم مرجعه إلى مولاه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِى إِسْرائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ والنُّبُوَةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِبّاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

كَرَّر في غير موضع ذِكْرِ موسى وذِكْرَ بني إسرائيل *** بعضه على الجملة وبعضه على التفصيل‏.‏ وهنا أجْمَلَ في هذا الموضِع، ثم عقبه حديث نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

إفردناك بلطائفَ فاعرفْها، وسَنَنَّا لكَ طرائقَ فاسلُكْها، وأثبتنا لك حقائقَ فلا تتجاوزْها، ولا تجنحْ إلى متابعة غيرك‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 21‏]‏

‏{‏إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏19‏)‏ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏20‏)‏ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً‏}‏‏.‏

إن أرادَ بكَ نعمةً فلا يمنعها أحدٌ، وإن أراد بك فتنةً فلا يَصْرِفها عنك أحدٌ‏.‏ فلا تُعَلِّقْ بمخلوقٍ فكْرَك، ولاتتوجهْ بضميرك إلى شيء، وثِقْ بربِّك، وتوكَّلْ عليه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏هَذَا بَصَآئِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ‏}‏‏.‏

أنوارُ البصيرةِ إذا تلألأتْ انكشفت دونها تهمةُ التجويز‏.‏

وَنَظَرُ الناسِ على مراتب‏:‏ فمِنْ ناظرٍ بنور نجومه- وهو صاحب عقل، ومن ناظرٍ بنو فراسته وهو صاحب ظنِّ يُقَوِّيه لَوْحٌ- ولكنه من وراء السَّرِّ، ومن ناظرٍ بيقين عِلْم بحكم برهانٍ وشَرْطِ فكْرٍ، ومِنْ ناظرٍ بعين إيمان بوصف اتَّباع، ومن ناظرٍ بنور بصيرةٍ هو على نهار، وشمسُه طالعة وسماؤه من السحاب مصحية‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السِّيِئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ‏}‏‏.‏

أَمَنْ خفضناه في حضيض الضَّعةِ كَمَنْ رفعناه إلى أعالي المَنَعَة‏؟‏

أَمَن ْأخذنا بيده ورحمناه كَمَنْ داسَه الخذلانُ فرجمناه‏.‏‏؟‏

أَمَنْ وهبناه بَسْطَ وقتٍ وأُنْسَ حالٍ ورَوْحَ لُطْفٍ حتى خَصَصْناه ورَقَيْنَاه، ثم قَرَّبْناه وأَدْنَيَْناه كَمَنْ ترك جُدَه واستفراغَ وسعه وإسبالَ دَمْعِه واحتراق قلبه *** فما أنعشناه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏23‏)‏ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَفَرَءَيْتَ مِنَ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً‏}‏‏.‏

مَنْ لم يَسْلُكْ سبيلَ الاتباع، ولم يستوفِ أحكامَ الرياضة، ولم يَنْسلِخْ عن هواه بالكليَّة، ولم يؤدَّبْه إمامٌ مُقْتَدَىٌ فهو ينجرفُ في كل وَهَدَةٍ، ويهيمُ في كلِّ ضلالة، ويضلُّ في كل فجِّ، خسرانُه أكثر من ربْحِه‏!‏‏!‏ أولئك في ضلالٍ بعيد؛ يعملون القُرَبَ على ما يقع لهم من نشاطِ نفوسهم، زمامُهم بيد هواهم، أولئك أهل المكر *** اسْتدْرِجُوا وما يَشْعُرون‏!‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَالِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ‏}‏‏.‏

لم يَعْتَبِروا بما اوجدوا عليه خَلَفَهم وسَلفَهم، وأَزْجَوْا في البهيمية عَيْشَهم وعُمْرَهم، وأعفوا عن كَدِّ الفكرة قلوبهم *** فلا بالعلم استبصروا، ولا من التحقيق استمدوا‏.‏ رأسُ مالِهم الظنُّ- وهم غافلون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

طلبوا إحياءَ موتاهم، وسوف يَرَوْن ما استبعدوا‏.‏

ثم أخبر أنَّ مُلْكَ السمواتِ والأرضِ لله، وإذا أقام القيامةَ يُحْشَرُ أصحابُ البطلان، فإذا جاءهم يومُ الخصام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

كلٌّ بحسابه مطالَبٌ *** فأمَّا الذين آمنوا فلقد فازوا وسادوا، وأمَّا الذين كفروا فهلكوا وبادوا‏.‏‏.‏ ويقال لهم‏:‏ أأنتم الذين إذا قيل لكم حديثُ عُقباكم كّذَّبتم مولاكم‏؟‏ فاليومَ- كما نسيتمونا- ننساكم، والنارُ مأواكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏36‏)‏ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏37‏)‏‏}‏

لله الحمدُ على ما يُبْدي ويُنْشي، ويحيي ويُفْني، ويُجْرِي ويُمْضِي‏.‏‏.‏ إذ الحكْمُ لله، والكبرياءُ لله، والعظمةُ والسَّناءُ لله، والرفعة والبهاءُ لله‏.‏

سورة الأحقاف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ‏(‏3‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏4‏)‏ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ‏(‏5‏)‏ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏حم تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ‏}‏‏.‏

حَمَيْتُ قلوبَ أهلِ عنايتي فَصَرَفْتُ عنها خواطرَ التجويز، وَثَبَّتُها في مشاهدِ اليقينِ بنور التحقيق؛ فلاحت فيها شواهدُ البرهان، فأضَفْنا إليها لطائفَ الإحسان؛ فكَمُلَ منالُها من عين الوصلة، وغذيناهم بنسيم الأَنْس في ساحات القربة‏.‏

‏{‏الْعَزِيزِ‏}‏‏:‏ المُعزِّ للمؤمنين بإنزال الكتاب عليهم‏.‏

‏{‏الْحَكِيم‏}‏، المُحْكِم لكتابِه عن التبديل والتحويل‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إلاًَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ‏}‏‏.‏

الكافرون مُعْرِضُون عن موضع الإنذار، مقيمون على حَدِّ الإصرار‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَءَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَوَاتِ ائْتُونِى بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَآ أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏‏.‏

أروني‏.‏‏.‏ أي أثر فيهم في الملك، أو القدرة على النفع والضر‏؟‏ إن كانت لكم حُجَّةٌ فأَظْهِرُوها، أو دلالة فَبَيِّنوها‏.‏‏.‏ وإذا قد عَجَزْتُم عن ذلك فهلاَّ رجعتم عن غيْكم وأقلعتم‏؟‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ اللّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ‏}‏‏.‏

مَنْ أشدُّ ضلالاً مِمَّنْ عَبَدَ الجمادَ الذي ليس له حياة ولا له في النفع أو الضر إثبات‏؟‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ‏}‏‏.‏

إذا حُشِرَ الناسُ للحساب وقعت العداوةُ بين الأصنام وعابديها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

رموا رُسُلَنا بالسِّحر ثم بالافتراء والمكر‏.‏‏.‏ قُلْ- يا محمد- كفى بالله بيني وبينكم شهيداً؛ أنتم أشركتم به، وأنا أخلصت له توحيداً‏.‏ وما كنت بدعاً من الرسل؛ فلستُ بأول رسولٍ أُرْسِل، ولا بغيرما جاءوا به من أصول التوحيد جئتُ، إنما أمرتكم بالإخلاص في التوحيد، والصدقِ في العبودية، والدعاءِ إلى محاسن الأخلاق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 11‏]‏

‏{‏قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏9‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏10‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىِّ وَمَآ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏‏.‏

وهذا قبل أن نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وفي الآية دليلٌ على فساد قول أهل القَدَرِ والبدِعِ حيث قالوا‏:‏ «إيلامُ البريء قبيحٌ في العقل»‏.‏ لأنه لو لم يَجُزْ ذلك لكان يقول‏:‏ أَعْلَمُ- قطعاً- أني رسول الله، وأني معصومٌ *** فلا محالةَ يغفر لي، ولكنه قال‏:‏ وما أدري ما يُفْعَلُ بي ولا بكم؛ لِيُعْلَمَ أن الأمرَ أمرُه، والحكمَ حكمُه، وله أن يفعلَ بعباده ما يريد‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَئَامَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

تبيَّنَ له أنه لا عُذْرَ لهم بحال، ولا أمانَ لهم من عقوبةِ الله‏.‏ وما يستروحون إليه من حُجَجِهم عند انفسهم كلُّها- في التحقيق- باطلٌ‏.‏ واخبر ان الكفار قالوا‏:‏ لو كان هذا الذي يقوله من الحشر والنشر حقًّ لم تتقاصر رتبتُنا عند الله عن رتبة أحدٍ، ولتَقَدَّمنا- في الاستحقاق- على الكُلِّ‏.‏ ولمَّا لم يجدوا لهذا القول دليلاً صرَّحوا‏:‏

‏{‏فَسَيَقُولُونَ هَذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ‏}‏‏.‏

ولقد بَعَثَ اللَّهُ أنبياءَه- عليهم السلام- وأنزل عليهم الكتب، وبيَّنَ في كلِّ كتابٍ، وعل لسانِ كلَِّ رسولٍ بأنه يبعث محمداً رسولاً، ولكن القومَ الذين في عصر نبيِّنا- صلى الله عليه وسلم- كتموه، وحسدوه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

مضى تفسيرُ الاستقامة‏.‏ وإنَّ مِنْ خرج على الإيمان والاستقامة حَظِيَ بكلِّ كرامة، ووصل إلى جزيل السلامة‏.‏

وقيل‏:‏ السين في «الاستقامة» سين الطَّلَب؛ وإن المستقيم هو الذي يبتهل إلى الله تعالى في أن يُقيمَه على الحق، ويُثَبِّتُه على الصدق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏15‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً‏}‏‏.‏

أَمَرَ الإنسانَ برعاية حقِّ والديه على الاحترام، لما لهما عليه من حق التربية والإنعام، وإذا لم يُحْسِنْ الإنسانُ حُرْمةَ مَنْ هو مِنْ جنسه فهو عن حُسْنِ مراعاة سِّده أبعد‏.‏ ولو لم يكن في هذا الباب إلا قوله- صلى الله عليه سلم‏:‏ «رضا الرب من رضا الوالدين وسخطه في سخطهما» لكان ذلك كافياً‏.‏ ورعايةُ حق الوالد من حيث الاحترام، ورعاية حق الأم من حيث الشفقة والإكرام‏.‏ ووَعَدَ الوالدين قبولَ الطاعة بقوله جلَّ ذكره‏:‏

‏{‏أُؤلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِئَّاتِهِم فِى أَصْحَبِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِى كَانُواْ يُوْعَدُونَ‏}‏‏.‏

فقبولُ الطاعةِ وغفران الزَّلَّة مشروطان ببرِّ الوالدين، وقد ذمَّ اللَّهُ- سبحانه- الذي يتصف في حقهما بالتأفُّفِ، وفي ذلك تنبيهٌ على ما وراء ذلك من أي تعنُّف، وعلى أنَّ الذي يَسْلكُ ذلك يكونُ من أهل الخسران، وبالتالي يكون ناقصَ الإيمان‏.‏

وسبيلُ العبدِ في رعاية حق الوالدين أن يُصْلِح ما بينه وبين الله، فحينئذٍ يَصْلُحُ ما بينه وبين غيره- على العموم، وأهله- على الخصوص‏.‏

وشَرُّ خصَال الولد في رعاية حق والديه أَنْ يتبَرَّم بطول حياتهما، ويتأذَّى بما يحفظ من حقهما‏.‏ وعن قريب يموت الأصلُ ويبقى النسلُ، ولا بدَّ من أن يتبع النسلُ الأصلَ، وقد قالوا في هذا المعنى‏:‏

رويدك إن الدهرَ فيه كفايةٌ *** لتفريق ذات البيْنِ‏.‏‏.‏ فانتظر الدهرا

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

سبيلُ العبد ألا ينسى في كل حالٍ معبودَه، وأَنْ يتذكرَ أنه معه في همِّه وسروره، وفي مناجاته عند رخائه وبلائه‏.‏ فإن اتفق أَنْ حَصَلَ له أَنْسٌ، وغَلَبَ عليه رجاءٌ وبسطٌ ثم هجم على قلبه قَبْضٌ أو مَسّهُ خوف‏.‏‏.‏ فليخاطبْ ربَّه حتى لا يكونَ من جملة مَنْ قيل له‏:‏ ‏{‏أَذْهَبْتُمْ طَيِّببَاتُكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏

أخبر بالشرحِ عن قصة هود وقومه عاد وما جرى بينهم من الخطاب، وتوجّه عليهم من العتاب، وأَخْذِهم بأليم العذاب‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ‏}‏

فلم يُغْنِ عنهم ما آتيناهم‏.‏‏.‏ وانظروا كيف أهلكناهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الجنِّ كما كان مبعوثاً إلى الإنس‏.‏ وإن قوماً أتوه ليلة الجن وآمنوا به، ورجعوا إلى قومهم فأخبروهم، وآمن قومٌ منهم، فاليومَ في الجن مؤمنون، وفيهم كافرون‏.‏

‏{‏فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ‏}‏ الصيحةُ على الباب وفوق البساط غيبةٌ؛ ولهذا لما حضر الجنُّ بساطَ خدمته- صلى الله عليه وسلم- تواصوا فيما بينهم بحفظ الأدب، وقالوا لما حضروا بساطَه‏:‏ ‏{‏أَنصِتُواْ‏}‏، فأهلُ الحضور صفتُهم الذبولُ والسكونُ، والهيبة والوقار‏.‏ والثورانُ أو الإنزعاجُ يدل على غيبة أو قِلّةِ تيقُّظِ أو نقصان اطلاع‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا قَضَى‏}‏ يعني الوحي ‏{‏وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ‏}‏ وأخبروهم بما رأوه وسمعوه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏31‏)‏‏}‏

يقال الإجابة على ضربين‏:‏ إجابةٌ لله، وإجابة للداعي؛ فإجابة الداعي بشهود الوساطة- وهو الرسول صلى الله عليه وسلم-‏.‏ وإجابةُ الله بالجهْرِ إذا بَلَغَتْهُ الرسالةُ على لسان السفير، وبالسِّرِّ إذا حصلت التعريفاتُ من الواردات على القلب؛ فمستجيبٌ بنفسه ومستجيبٌ بقلبه ومستجيبٌ بروحه ومستجيبٌ بسرِّه‏.‏ ومن توقف عن دعاء الداعي إيِّاه، ولم يبادرْ بالاستجابة هُجِرَ فيما كان يُخَاطب به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 35‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏33‏)‏ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏34‏)‏ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

الرؤيةُ هنا بمعنى العلم‏.‏

‏{‏وَلَمْ يَعْىَ‏}‏ أي ولم يعجز ولم يَضْعفُ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ‏}‏‏.‏

ثم يقال لهم على سبيل تأكيد إلزام الحجة‏:‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ‏}‏‏.‏

جزاءً لكم على كُفْركم‏.‏

قوله جل ذكره‏:‏ ‏{‏فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ‏}‏‏.‏

أولو الجد والصبر والحزم‏.‏ وجاء في التفسير أنهم‏:‏ نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه سلم‏.‏ وقيل‏:‏ هود وصالح وشعيب ومحمد عليهم السلام‏.‏ وقيل‏:‏ منهم يعقوب وأيوب ويونس‏.‏

والصبرُ هو الوقوفُ لحُكْمِ الله، والثباتُ من غير بثٍ ولا استكراهٍ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُواْ إلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارِ‏}‏‏.‏

ويقال مُدّةُ الخلْقِ‏:‏ من مبتدأ وقتهم إلى مُنتَهى آجالهم بالإضافة إلى الأزليّة كلحظةٍ بل هي أقلُّ؛ إذ الأزلُ لا ابتداء له ولا انتهاء‏.‏‏.‏ وأي خَطَرٍ لما حصل في لحظةٍ *** خيراً كان أو شَرَّاً‏؟‏‏!‏

سورة محمد

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏1‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ‏(‏2‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏الّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَءَامَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ‏}‏‏.‏

‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏‏:‏ امتنعوا، وصَدُّوا فَمُنِعُوا؛ فلأنهم امتنعوا عن سبيل الله استوجبوا الحَحْبَةَ والغيبة‏.‏

‏{‏أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ‏}‏‏:‏ أي أحبطها‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ‏}‏ بما نُزِّلَ على محمد، ‏{‏وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ‏}‏‏.‏

أصلح حالَهم، فالكفرُ للأعمالِ مُحْبِطٌ، والإيمان للتخليد مُسْقِط‏.‏

ويقال‏:‏ الذين اشتغلوا بطاعةِ اللَّهِ، ولم يعملوا شيئاً ما خَالَفَ اللَّهَ- فلا محالةَ- نقوم بكفاية اشتغالهم بالله‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفرُواْ اتَّبَعُواْ الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّبَعُواْ الْحَقَّ مِن رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ‏}‏‏.‏

أي يضرب أمثالَ هؤلاء لحسناتهم، وامثال هؤلاء لسيئاتهم‏.‏

ويكون اتباعُ الحقِّ بموافقة السُّنَّةِ، ورعاية حقوق الله، وإيثار رضاه، والقيام بطاعته ويكون اتباعُ الباطلِ بالابتداع، والعملِ بالهوى، وإيثارِ الحظوظ، وارتكابِ المعصية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 6‏]‏

‏{‏فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏4‏)‏ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ‏(‏5‏)‏ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ‏(‏6‏)‏‏}‏

إذا حَصَلَ الظَّفَرُ بالعدوِّ فالعفُو عنهم وتَرْكُ المبالغةِ في التشديد عليهم- للندم مُوجِبٌ، وللفرصةِ تضييعٌ؛ بل الواجبُ إزهاقُ نفوسِهم، واستئصالُ أصولِهم، واقتلاعُ شَجَرِهم من أصله‏.‏

وكذلك العبدُ إذا ظفر بنفْسه فلا ينبغي أن يُبْقِيَ بعد انتفاش شوكها بقيةً من الحياة، فَمَنْ وضع عليها إصبعاً بَثَّتْ سُمَّها فيه‏.‏

‏{‏فَإِمَّا مَنَّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً‏}‏ ذلك إذا رجا المسلمون في ذلك غبطةً أو فائدةً؛ مثل إفراج الكفَّارِ عن قومٍ من المسلمين، أو بسبب ما يؤخذ من الفِداء‏.‏‏.‏ وأمثال هذا، فحينئذٍ ذلك مُسَلّمٌ على ما يراه الإمام‏.‏

كذلك حال المجاهدة مع النَّفْس‏:‏ حيث يكون في إغفاءِ ساعةٍ أو في إفطارِ يوم ترويحٌ للنفس من الكَدِّ، وتقويةٌ على الجهد فيما يستقبل من الأمر- فذلك مطلوبٌ حسبما يحصل به الاستصوابُ من شيخ المريد، أو فتوى لسانِ الوقت، أو فراسة صاحب المجاهدة‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ يَدُخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ‏}‏‏.‏

إذا قُتِل أحدٌ في سبيل الحقِّ تولّى وَرَثَة َالمقتولِ بأحسنَ مِنْ تولية المقتول‏.‏

وكذلك يَرْفَعُ درجاتِه؛ فيُعْظِمُ ثوابَه، ويُكْرِمُ مآبه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 11‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ‏(‏7‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏8‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏9‏)‏ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ‏(‏10‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهِ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ‏}‏‏.‏

نصرةُ الله من العبد نصرةُ دينه بإيضاح الدليل وتبيينه‏.‏

ونصرةُ اللَّهِ للعبد بإعلاء كلمته، وقَمْعِ أعداء الدين ببركاتِ سَعْيه وهمَّتهِ‏.‏

‏{‏وَيُثَبِتْ أَقْدَامَكُمْ‏}‏ بإدامةِ التوفيقِ لئلا ينهزم من صولةِ أعداءِ الدين‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَلِكَ بَأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ‏}‏‏.‏

تعساً لهم‏:‏ لعناً وطرداً، وقَمْعاً وبُعداً‏!‏

‏{‏أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ‏}‏‏:‏ هَتَكَ أستارَهم، وأَظْهَرَ للمؤمنين أسرارَهم، وأَخْمَدَ نارَهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَسِيُرواْ فِى الأَرْضِ فَيَنُظُرواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ‏}‏‏.‏

وكيف أهلكهم وأبادهم وأقماهم‏؟‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ‏}‏‏.‏

المولى هنا بمعنى الناصر؛ فاللَّهُ ناصرٌ للذين آمنوا، وأمَّ الكافرون فلا ناصرَ لهم‏.‏

أو الموْلى من المولاة وهي ضد المعاداة، فيكون بمعنى المحب؛ فهو مولى الذين آمنوا أي مُحِبُّهم، وأما الكافرون فلا يحبهم الله‏.‏

ويقول تعالى في آية أخرى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِنَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 257‏]‏‏.‏

ويصح أن يقالَ إنَّ هذه أرجى آية في القرآن؛ ذلك بأنه سبحانه يقول‏:‏ ‏{‏بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ‏}‏ ولم يقل‏:‏ مولى الزهَّادِ والعُبَّادِ وأصحاب الأورادِ والاجتادِ؛ فالمؤمنُ- وإنْ كان عاصياً- من جملة الذين آمنوا، ‏(‏لا سيما و«آمنوا» فعل، والفعل لا عمومَ له‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 14‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ‏(‏12‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ‏(‏13‏)‏ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ‏}‏‏.‏

مضى الكلامُ في هذه الآية‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ‏.‏‏}‏‏.‏

الأنعامُ تأكل من أي موضع بلا تمييز، وكذلك الكافرُ لا تمييزَ له بين الحلال والحرام ‏[‏كذلك الأنعام ليس لها وقت لأكلها؛ بل في كل وقت تقتات وتأكل، وكذلك الكافر، وفي الخبر‏:‏ «إنه يأكل في سبعة أمعاء» أمَّا المؤمن فيكتفي بالقليل كما في الخبر‏:‏ «إن كان ولا بُد فثُلُثٌ للطعام وثُلُثٌ للشراب وثلث للنفس» و«ما ملأ ابن آدم وعاءً شرَّاً من بظنه»

ويقال‏:‏ الأنعامُ تأكل على الغفله؛ فَمَنْ كان في حال أكله ناسياً ربَّه فأكْلُه كأكلِ الأنعام‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ‏}‏‏.‏

‏{‏أَهْلَكْنَاهُمْ‏}‏‏:‏ يعني بها مَنْ أهلكهم من القرون الماضية في الأعصر الخاليه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَآءَهُم‏}‏‏.‏

«البيَّنة»‏:‏ الضياء والحُجَّة، والاستبصار بواضح المحجة‏:‏ فالعلماءُ في ضياء برهانهم، والعارفون في ضياءِ بيانهم؛ فهؤلاء بأحكام أدلة الأصول يُبْصِرون، وهؤلاء بحكم الإلهام والوصول يستبصرون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏مَّثَلُ الجَنَّةِ الَّتِى وَعِدَ المُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ‏}‏‏.‏

كذلك اليومَ شأنُ الأولياء، فهم شرابُ الوفاء، ثم شرابُ الصفاء، ثم شرابُ الولاء، ثم شرابٌ حالَ اللقاء‏.‏

ولكلٍّ من هذه الأشربة عمَلٌ، ولصاحبه سُكْرٌ وصحو؛ فَمَنْ تحسَّى شرابَ الوفاء لم ينظر إلى احدٍ في ايام غيبته من أحبابه‏:‏

وما سَرَّ صدري مُنْذ شطَّ بك النوى *** أنيسٌ ولا كأس ولا متصرف

ومَنْ شَرِبَ كأسَ الصفاء خَلُصَ له عن كل شَوْبٍ، فلا كدورةَ في عهده، وهو في كلِّ وقتٍ صافٍ عن نَفْسِه، خالٍ من مُطَالَباته، قائمٌ بلا شُغلٍ- في الدنيا والآخرة- ولا أرَبٍ‏.‏

ومَنْ شَرِبَ كأسَ الولاء عَدِمَ فيه القرار، ولم يَغِبْ بِسرِّه لحظةً في ليلٍ أو نهار‏.‏

ومَنْ شَرِبَ في حال اللقاء أَنِسَ على الدوام ببقائه؛ فلم يطلب- مع بقائه- شيئاً أخَرَ من عطائه؛ لاستهلاكه في علائه عند سطوات كبريائه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ‏(‏16‏)‏‏}‏

هم المنافقون الذين كرهوا ما أنزل اللَّهُ؛ لِمَا فيه من افتضاحِهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَءَاتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ‏}‏‏.‏

‏{‏اهْتَدَوْا‏}‏‏:‏ بأنواع المجاهدات، «فزادهم هدًى»‏:‏ بأنوار المشاهدات‏.‏

‏{‏اهْتَدَوْاْ‏}‏‏:‏ بتأمل البرهان، «فزادهم هدى» بَرْوح البيان‏.‏

‏{‏اهْتَدَوْاْ‏}‏‏:‏ بعلم اليقين، «فزادهم هدًى»‏:‏ بحقِّ اليقين‏.‏

‏{‏اهْتَدَوْاْ‏}‏‏:‏ بآداب المناجاة، «فزادهم هدًى»‏:‏ بالنجاة ورَفْعِ الدرجات‏.‏

‏{‏اهْتَدَوْاْ‏}‏‏:‏ إلى ما فيه من الحقِّ ولم يختلفوا في أنه الحق، «فزادهم هدًى» بالاستقامة على طرق الحق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ‏(‏18‏)‏ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا فََأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَألْمُؤْمِنَاتِ‏}‏‏.‏

كان عالماً بأنه‏:‏ ‏{‏لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ‏}‏ فامره بالثبات عليها؛ قال ‏(‏ص‏)‏‏:‏ «أنا أعلمكم بالله، وأخشاكم له»‏.‏

ويقال‏:‏ كيف قيل له‏:‏ ‏{‏ *** فَاعْلَمْ‏}‏ ولم يقل‏:‏ عَلِمْتُ، وإبراهيم قيل له‏:‏ ‏{‏أَسْلِمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 131‏]‏ فقال‏:‏ «سلمت‏.‏‏.‏‏.‏»‏؟‏ فيُجاب بأن إبراهيمَ لمَّا قال «اسلمت» ابْتُلِيَ، ونبيَّنا صلى الله عليه وسلم لم يقل‏:‏ علمت فعُوفِيَ‏.‏

وإبراهيم عليه السلام أتى بَعْدَه شَرْع كَشَف َ سِرَّه، ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم لم يأتِ بعدَه شرعٌ‏.‏ ويقال‏:‏ نبيُّنا صلى الله عليه وسلم أخبر الحقُّ عنه بقوله‏:‏ ‏{‏ءَامَنَ الرَّسُولُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 285‏]‏ والإيمان هو العلم- وإخبارُ الحقِّ سبحانه عنه أَتَمُّ من إخباره بنفسه عن نفسه‏:‏ «عَلِمْتُ»‏.‏

ويقال‏:‏ فرقٌ بين موسى عليه السلام لمَّا احتاج إلى زيادةِ العلم فأُحيلَ على الخضر، ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏{‏وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْماً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 114‏]‏ *** فكم بين مَنْ أُحيلَ في استزادة العلم على عَبْدٍ وبين مَنْ أمِرَ باستزادة العلم من الحق‏!‏‏!‏‏.‏

ويقال لمَّا قال له‏:‏ ‏{‏فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ‏}‏ كان يأمره بالانقطاع إليه عن الخَلْق، ثم بالانقطاع منه- أي من الرسول- إليه *** أي إلى الحق سبحانه‏.‏ والعبدُ إذا قال هذه الكلمةَ على سبيلِ العادةِ والغفلةِ عن الحقيقة- أي كان بصفة النسيان- فليس لقوله كثيرُ قيمةٍ؛ كأن تُقال عند التعجب من شيء *** فليس لهذا قَدْرٌ‏.‏ أمَّا إذا قالها مخلصاً فيها، ذاكراً لمعناها، متحققاً بحقيقتها *** فإنْ كان بنفسه فهو في وطن التفرقة *** وعندهم هذا من الشِّرْكِ الخفِّي، وإن قالها بحقٍّ فهو الإخلاص‏.‏ فالعبد يعلم أولاً ربَّه بدليل وحُجَّةٍ؛ فعِلْمُه بنفسه كَسْبيٌّ *** وهو اصل الأصول، وعليه ينبني كل علم استدلالي‏!‏ ثم تزداد قوةُ علمه بزيادة البيان وزيادة الحجج، ويتناقص علمُه بنفسه لغَلَبَاتِ ذِكْرِ اللَّهِ على القلب‏.‏ فإذا انتهى إلى حال المشاهدة، واستيلاء سلطان الحقيقة عليه صار عِلْمُه في تلك الحالة ضرورياً‏.‏ ويقلُّ إحساسُه بنفسه حتى يصير علمه بنفسه كالاستدلاليّ وكأنه غافلٌ عن نفسه أو ناسٍ لنفسه‏.‏

ويقال‏:‏ الذي على البحر يغلب عليه ما يأخذه من رؤية البحر، فإذا ركب البحر قويت هذه الحالة، حتى إذا غرق في البحر فلا إحساسَ له بشيء سوى ما هو مستغرقٌ فيه ومستهلك‏.‏

‏{‏وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ‏}‏‏:‏ أي إذا عَلِمْتَ أنك علمت فاستغفِرْ لذنبك من هذا؛ فإن الحقَّ- على جلال قدْرِه- لا يعلمه غيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ‏(‏20‏)‏ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ‏(‏21‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُوا لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنُظرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِىِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

كان المسلمون تضيق قلوبهم بتباطؤ الوحي، وكانوا يتمنون ان ينزل الوحيُ بسرعةٍ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْلاَ نُزّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ‏}‏ رأيتَ المنافقين يكرهون ذلك لِمَا كان يشق عليهم من القتال، فكانوا يفتضحون عندئذٍ، وكانوا ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم- بغاية الكراهة‏.‏

‏{‏ *** فَأَوْلَى لَهُمْ‏}‏‏.‏

تهديد‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ‏}‏‏.‏

وهو قولهم‏:‏ ‏{‏لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

ويقال‏:‏ فأولى لهم طاعةٌ منهم لله ولرسوله‏.‏ ‏{‏وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ‏}‏ بالإجابة لما أُمِرُوا به عن الجهاد‏.‏

ويقال‏:‏ طاعةٌ وقولٌ معروفٌ أَمثَلُ بهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 24‏]‏

‏{‏فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ‏(‏22‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ‏(‏23‏)‏ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ‏}‏‏.‏

إذا عزم ما الأمرُ- أي جَدَّ وفُرِضَ القتالُ- فالصدقُ والإجابةُ خيرٌ لهم من كذبهم ونفاقِهم وتقاعدِهم من الجهاد‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ‏}‏‏.‏

أي فلعلكم إنْ أَعرضتم عن الإيمان- بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم- ورجعتم إلى ما كنتم عليه أن تفسدوا في الأرض، وتسفكوا الدماءَ الحرامَ، وتقطعوا أرحامكم، وتعودوا إلى جاهليتكم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ‏}‏‏.‏

أصمَّهم عن سماعِ الحقِّ وقبولِه بقلوبهم، وأعمى بصائرَهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا‏}‏‏.‏

أي إن تدَّبروا القرآن أفضى بهم إلى العرفان، وأراحهم من ظلمة التحيرُّ‏.‏

‏{‏أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا‏}‏‏:‏ أقفلَ الحقُّ على قلوب الكفار فلا يُدَاخِلُها زاجرُ التنبيه، ولا ينبسط عليها شعاعُ العلم، فلا يحصل لهم فَهْمُ الخطاب؛ فالبابُ إذا كان مُقفَلاً *** فكما لا يدخل فيه شيءٌ لا يخرج منه شيء؛ كذلك قلوبُ الكفار مقفلةٌ، فلا الكفرُ الذي فيها يَخْرُجُ، ولا الإيمانُ الذي هم يُدْعَوْن إليه يدخل في قلوبهم‏.‏

وأهلُ الشِّرْكِ والكفرِ قد سُدَّت بصائرهم وغُطِّيَتْ أسرارهم، ولُبِّسَ عليهم وجهُ التحقيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ‏(‏25‏)‏‏}‏

الذي يطلع فجرُ قلبه، ويتلألأ نورُ التوحيد فيه، ثم قَبْلَ متوع نهارِ إيمانه انكسفت شمسُ يومهِ، وأظلم نهارُ عرفانه، ودَجا ليلُ شَكَّه، وغابت نجومُ عقله *** فحدِّث عن ظُلُماتِه *** ‏!‏ ولا حرج‏!‏‏.‏

ذلك جزاؤهم على ممالأتهم مع المنافقين، وتظاهرهم‏.‏‏.‏ فإذا تَوَفَّتْهُم الملائكةُ تتصل آلامُهم، ولا تنقطع بعد ذلك عقوباتُهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 32‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ‏(‏29‏)‏ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ‏(‏30‏)‏ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ‏(‏31‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏32‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضُ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ‏}‏‏.‏

ليس الأمرُ كما تَتوَهَّموه، بل لله يفضحهم ويكشف تلبيسَهم، ولقد أخبر الرسولَ عنهم، وعرَّفه أعيانهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِِ‏}‏‏.‏

أي في معنى الخطاب، فالأَسِرَّةُ تَدُلُّ على السريرة، وما يخامر القلوبَ فَعَلى الوجوهِ يلوحُ أثرُه‏:‏

لستُ ممن ليس يدري *** ما هوان من كرامة

إنَّ للحبِّ وللبغضِ علىلوجه علامة *** والمؤمنُ ينظر بنور الفراسة، والعارفُ ينظر بنورِ التحقيق، والموحِّدُ ينظر بالله فلا يستتر عليه شيء‏.‏ ويقال‏:‏ بصائرُ الصديقين غيرُ مُغَطَّاة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «سدوا كل خوخة غير خوخة أبي بكر»‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ‏}‏‏.‏

بالابتلاء والامتحان تتبين جواهرُ الرجال، فيظهر المخلصُ، ويفتضح الماذقُ، وينكشف المنافق، فالذين آمنوا وأخلصوا نجوا وتخلصوا، والذين كفروا ونافقوا وقعوا في الهوان وأُذِلُّوا، ووسِموا بالشَقاوة وقُطعوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ‏}‏‏:‏ بالرياء والإعجاب والملاحظة‏.‏

‏{‏وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ‏}‏‏:‏ بالمساكنة إليها‏.‏ ‏{‏وَلاَ تُبْطُلواْ أَعْمَالَكُمْ‏}‏ بطلب الأعواض عليها‏.‏

‏{‏وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ‏}‏‏:‏ بتوهمكم أنه يجب بها شيء دون فضل الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 38‏]‏

‏{‏فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ‏(‏35‏)‏ إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ‏(‏36‏)‏ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ‏(‏37‏)‏ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ‏(‏38‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَهُ مَعَكُمْ‏}‏‏.‏

أي لا تميلوا إلى الصلح مع الكفار وانتم الأَعلون بالحجة‏.‏

أنتم الأعلون بالنصرة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ مَعَكُمْ‏}‏‏.‏ أي بالنصرة ويقال‏:‏ لا تضعفوا بقلوبكم، وقوموا بالله؛ لأنكم- والله معكم- لا يخفى عليه شيءٌ منكم، فهو على الدوام يراكم‏.‏ ومَنْ عَلِمَ انَّ سَيِّدَه يراه يتحمل كلَّ مشتغلاً برؤيته‏:‏

‏{‏وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ‏}‏‏.‏

أي لا ينقصكم أَجْرَ أعمالكم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْحَياَةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْئَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ‏}‏‏.‏

تجنبوا الشِّركَ والمعاصي حتى يَفِيَكُم أجورَكم‏.‏

واللَّهُ لا يسألكم من أموالكم، إلا اليسير منها وهو مقدار الزكاة‏.‏

‏{‏إِن يَسْئَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ‏}‏‏.‏

«الإحفاء» الإلحاح في المسألة *** وهذا إنما يقوله لمن لم يُوقَ شُحَّ نَفْسه، فأمَّا الإخوان ومَنْ عََلَتْ رتبتُهم في باب حرية القلب فلا يُسامَحون في استيفاءِ ذَرَّةٍ، ويُطالَبون ببذل الرُّوح، والتزام الغرامات‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏هَآ أَنتُمْ هَؤُلآءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ‏}‏‏.‏

البخلُ مَنْعُ الواجب، ووإذا بخل فإنما يبخل عن نفسه لأنه لو لم يفعل ذلك لَحَصَلَ له الثراء- هكذا يظن‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ‏}‏‏.‏

«غنيٌّ» بنفسه على قول، وغنيٌّ بوصفه على القول الثاني‏.‏ وغناه كونه لا تتقيد مراداتُه‏.‏ أمَّا البعدُ فهو فقيرٌ بنفسه؛ لأنه لا يستغني عن مولاه؛ في الابتداء منذ خَلْقه إلى الانتهاء، وهو في دوام الاوقات مفتقرٌ إلى مولاه‏.‏

والفقيرُ الصادقُ مَنْ يشهد افتقارَه إلى الله‏.‏ وصِدْقُ الفقير في شهود فقره إلى الله‏.‏ ومَنْ افتقر إلى الله استغنى بالله، ومَنْ افتقر إلى غير الله وقع في الذُّلِّ والهوان‏.‏

ويقال‏:‏ اللَّهُ غنيٌّ عن طاعتِكم، وأنتم الفقراءُ إلى رحمتِه‏.‏

ويقال‏:‏ اللَّهُ غنيٌّ لا يحتاج إليكم، وأنتم الفقراءُ لأنكم لا بديلَ لكم عنه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَإِن تَتَولَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم‏}‏‏.‏

يستبدل قوماً غيركم يكونون أشدَّ منكم طاعةً، وأصدقَ منكم وفاءً؛ فهو قادرٌ على خَلْق أمثالَكم ثم لا يكونون أمثالكم في العصيانِ والإعراضِ وتَرْكِ الشكرِ والوفاءِ *** بل سيكونون خيراً منكم‏.‏

سورة الفتح

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ‏(‏1‏)‏ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّا فِتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً‏}‏‏.‏

قضينا لك قضاءَ بَيَّناً، وحكمنا لك َ بتقويةِ دينِ الإسلام، والنصرةِ على عدوِّك، وأكرمناكَ بفتح ما انغلق على قلبِ مَنْ هو غيرك- مِنْ قِبْلِك- بتفصيلِ شرائعِ الإسلام، وغير ذلك من فتوحات قلبه صلوات الله عليه‏.‏

نزلت الآيةُ في فتحِ مكة، ويقال في فتح الحُديبية‏.‏

ويقال‏:‏ هديناك إل شرائع الإسلام، وَيَسَّرْنا لك أمورَ الدين‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لِيَغْفِرَ لَكَ اللَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏‏.‏

كلا القسمين- المتقدِّم والمتأخِّر- كان قبلَ النبوة‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏مَا تَقَدَّمَ‏}‏ من ذَنْبِ آدمِ بحُرْمتك، ‏{‏وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏‏:‏ من ذنوب أُمَّتك‏.‏

وإذا حُمِلَ على تَرْك الأوْلَى فقد غفر له جميع ما فعل من قبيل ذلك، قبل النبوة وبعدها‏.‏

ولمَّا تزلت هذه الآية قالوا‏:‏ هنيئاً لك‏!‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا‏}‏ *** ويقال‏.‏ حسناتُ الأبرارِ سيئاتُ المقربين‏.‏

‏{‏وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً‏}‏‏.‏

يتم نعمته عليك بالنبوة، وبوفاء العاقبة، ويبسط الشريعة، وبشفاعته لأمته، وبرؤية الله غداً، وبإظهار دينه على الأديان، وبأنه سيد ولد آدم، وبأنه أقْسَمَ بحياتِهِ، وخصَّه بالعيان‏.‏ وبسماعِ كلامه سبحانه ليلةَ المعراج، وبأن بَعَثَه إلى سائِرِ الأمم‏.‏‏.‏ وغير ذلك من مناقبه‏.‏

‏{‏وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً‏}‏ يثبتك على الصراط المستقيم، ويزيدك هدايةً على هداية، ويهدي بك الخَلْقَ إلى الحقِّ‏.‏

ويقال‏:‏ يهديك صراطاً مستقيماً بترك حَظِّك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 4‏]‏

‏{‏وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ‏(‏3‏)‏ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً‏}‏‏.‏

لا ذُلَّ فيه، وتكون غالباً لا يَغْلِبُكَ أحَدٌ‏:‏

ويقال‏:‏ ينصرك على هواك ونَفْسِك، وينصرك بحُسْنِ خُلُقِك ومقاساةِ الأذى من قومك‏.‏

ويقال نصراً عزيزاً‏:‏ مُعِزَّاً لك ولمن آمن بك‏.‏

وهكذا اشتملت هذه الآية على وجوهٍ من الأفضال أكْرَمَ بها نبيَّه- صلى الله عليه وسلم- وخصَّه بها من الفتح والظَّفَرِ على النَّفْس والعدو، وتيسير ما انغلق على غيره، والمغفرة، وإتمام النعمة والهداية والنصرة‏.‏‏.‏ ولكلٍّ من هذه الأشياء خصائصُ عظيمةٌ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤمِنِينَ‏}‏ السكينةُ ما يسكن إليه القلبُ من البصائر والحُجَج، فيرتقي القلبُ بوجودِها عن حدِّ الفكرة إلى رَوْحِ اليقين وثَلَج الفؤاد، فتصير العلومُ ضروريةٌ *** وهذا للخواصَّ‏.‏

فأمّا عوامُّ المسلمين فالمرادُ منها‏:‏ السكون والطمأنينة ُواليقين‏.‏

ويقال‏:‏ من أوصافِ القلب في اليقين المعارف والبصائر والسكينة‏.‏

وفي التفاسير‏:‏ السكينة ريح هفَّافة‏.‏ وقالوا‏:‏ لها وجهٌ كوجه الإنسان‏.‏ وقيل لها جناحان‏.‏

‏{‏لِيَزْدَادُواْ إِيَماناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ‏}‏‏.‏

أي يقيناً مع يقينهم وسكوناً مع سكونهم‏.‏ تطلع أقمارُ عين اليقين على نجوم علم اليقين، ثم تطلع شمسُ حقِّ اليقين على بَدْرِ عين اليقين‏.‏

‏{‏وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً‏}‏‏.‏

‏{‏جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ وقيل‏:‏ هي جميع القلوب الدالَّةِ على وحدانية الله‏.‏

ويقال‏:‏ مُلْكُ السمواتِ والأَرضِ وما به من قوىً تقهر أعداءَ اللَّهِ‏.‏

ويقال‏:‏ هم أنصارُ دينه‏.‏

ويقال‏:‏ ما سلَّطه الحقُّ على شيءٍ فهو من جنوده، سواء سلَّطَه على ولِّيه في الشدة والرخاء، أو سلَّطَه على عدوِّه في الراحة والبلاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

يَسْتَرُ ذنوبَهم ويحطها عنهم‏.‏‏.‏ وذلك فوزٌ عظيم، وهو الظَّفَرُ بالبغية‏.‏

وسُؤْلُ كلِّ أحدٍ ومأمولُه، ومُبْتغاه ومقصودُه مختلِفٌ *** وقد وَعَدَ الجميعَ ظَفَراً به

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 9‏]‏

‏{‏وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏6‏)‏ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏7‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏8‏)‏ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ وَالمُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكَاتِ الظَّآنِّينَ باللَّهِ ظَنَّ السُّوْءِ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ‏}‏‏.‏

يعذبهم في الآجل بعذابهم وسوء عقابهم‏.‏

و ‏{‏ظَنَّ السَّوْءِ‏}‏‏:‏ هو ما كان بغير الإذن؛ ظنوا أَنَّ الله لا ينصر دينَه ونَبيَّه عليه السلام‏.‏

‏{‏عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ‏}‏‏:‏ عاقبته تدور عليهم وتحيقُ بهم‏.‏

‏{‏وَلَعَنَهُمْ‏}‏‏:‏ أبعدهم عن فضله، وحقت فيهم كلمتُه، وما سبقت لهم- من الله سبحانه- قِسْمِتُه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً‏}‏‏.‏

‏{‏أَرْسَلْناكَ شَاهِداً‏}‏‏:‏ على أُمَّتِكَ يوم القيامة‏.‏ ويقال‏:‏ شاهداً على الرُّسُلِ والكتب‏.‏

ويقال‏:‏ شاهداً بوحدانيتنا وربوبيتنا‏.‏ ويقال‏:‏ شاهداً لأمتك بتوحيدنا‏.‏ ‏{‏وَمُبَشِّراً‏}‏‏:‏ لهم مِنَّ بالثواب، ‏{‏وَنَذِيراً‏}‏ للخَلْق؛ زاجِراً ومُحَذِّراً من المعاصي والمخالفات‏.‏

ويقال‏:‏ شاهداًمِنْ قِبَلنا، ومُبَشِّراً بأمرنا، ونذيراً من لَدُنَّا ولنا ومِنَّا‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏لِّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً‏}‏‏.‏

قرئ‏:‏ «ليؤمنوا» بالياء؛ لأن ذكر المؤمنين جرى، أي ليؤمن المؤمنون بالله ورسوله ويعزروه وينصروه أي الرسول، ويوقروه‏:‏ أي‏:‏ يُعَظِّموا الرسولَ‏.‏ وتُسَبِّحوه‏:‏ أي تُسَبِّحوا الله وتنزهوه بكرة وأصيلاً‏.‏

وقرىْ‏:‏ «لتؤمنوا»- بالتاء- أيها المؤمنون بالله ورسوله وتُعَزروه- على المخاطَبة‏.‏ وتعزيرُه يكون بإيثاره بكلِّ وجه على نَفْسك، وتقديمِ حُكْمهِ على حُكمِك‏.‏ وتوقيرُه يكون باتباع سُنَّتِه، والعلم بأنه سيِّدُ بَريَّته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏10‏)‏ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَأ يُبَايِعُونَ اللًّهَ‏}‏‏.‏

وهذه البيعة هي بيعة الرضوان بالحديبية تحت سَمُرَة‏.‏

وذلك أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعث عثمانَ رضي الله عنه إلى قريش ليُكلِّمَهم فأرجفوا بقَتْلِه‏.‏ وأتى عروة بن مسعود إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- وقال‏:‏

جئتَ بأوشاب الناس لتفضَّ بَيْضَتَكَ بيدك، وقد استعدت قريش لقتالك، وكانِّي بأصحابك قد انكشفوا عنك إذا مسَّهم حرُّ السلاح‏!‏ فقال أبو بكر‏:‏ أتظن أنَّ نسلم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏

فبايعهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ان يُقاتِلوا وألا يهربوا، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ‏}‏‏:‏ أي عقْدُك عليهم هو عقد الله‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيِهمْ‏}‏‏.‏

أي ‏{‏يَدُ اللَّهِ‏}‏‏:‏ في المنة عليهم بالتوفيق والهداية‏:‏ ‏{‏فَوْقَ أَيْدِيِهمْ‏}‏ بالوفاء حين بايعوك‏.‏

ويقال‏:‏ قدرة الله وقوته في نصرة دينه ونصرة نبيِّه صلى الله عليه وسلم فوقَ نَصْرِهم لدين الله ولرسوله‏.‏

وفي هذه الآية تصريحٌ بعين الجمع كما قال‏:‏ ‏{‏وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 17‏]‏‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏فَمَنَ نَّكَثَ فإِِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ‏}‏‏.‏

أي عذابُ النكثِ عائدٌ عليه‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً‏}‏‏.‏

أي من قام بما عاهد الله عليه على التمام فسيؤتيه أجراً عظيماً‏.‏

وإذا كان العبد بوصف إلخلاصِه، ويعامِل اللَّهَ في شيءٍ هو به متحقِّقٌ، وله بقلبه شاهدٌ فإنَّ الوسائطَ التي تُظْهِرُهاَ أماراتُ التعريفاتِ تجعله محواً في أسرارِه *** والحكم عندئذ راجعٌ‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسٍنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ‏}‏‏.‏

لمَّا قَصَدَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية تخلَّفَ قومٌ من الأعراب عنه‏.‏ قيل‏:‏ هم أسلم وجهينة وغفار ومزينة واشجع، وقالوا‏:‏ ‏{‏شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا‏}‏ وليس لنا مَنْ يقوم بشأننا وقالوا‏:‏ انظروا ماذا يكون؛ فما هم من قريش إلاَّ أكَلَهُ رأسٍ‏.‏ فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءوه مُعْتَذِرين بأنه لم يكن لهم أحدٌ يقوم بأَمورهم‏!‏ وقالوا‏:‏ استغفر لنا‏.‏

فأطلعه الله-سبحانه- على كذبهم ونفاقهم؛ وأنهم لا يقولون ذلك إخلاصاً، وعندهم سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، فإنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم‏.‏

قوله جلّ ذكره‏:‏ ‏{‏قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَأدَ بِكُمْ نَفْعَا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرَا‏}‏‏.‏

فضَحَهم‏.‏ ويقال‏:‏ ما شغل العبد عن الله شُؤمٌ عليه‏.‏

ويقال‏:‏ عُذْرُ المماذِقِ وتوبةُ المنافِق كلاهما ليس حقائق‏.‏